سورة التوبة
نقض عهد المشركين، وإِعلان الحرب عليهم والبراءة منهم
فريضة قتال مشركي العرب
مشروعية الأمان
الحكمة من البراءة من عهود المشركين
مصير المشركين إما التوبة وإما القتال
التحريض على قتال المشركين الناكثين للعهود
اختبار المسلمين واتخاذ البطانة
عمارة المساجد
فضل الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله
ولاية الآباء والإخوان الكافرين، وتفضيل الإيمان والجهاد
نصر الله للمؤمنين على الأعداء في مواضع كثيرة
تحريم دخول المشركين إلى المسجد الحرام
الأمر بمقاتلة أهل الكتاب، وأخذ الجزية منهم
افتراء اليهود والنصارى على الله بنَسبتهم الولد له سبحانه
طريقة تعامل الرهبان والأحبار مع الناس
عدد الشهور عند الله، وقتال المشركين كافة وتحريم النسيء
التحريض على الجهاد وعذاب تاركيه، ومعجزة الغار
الأمر بالخروج للجهاد في سبيل الله
تخلف المنافقين عن غزوة تبوك ومسألة الإذن لهم في ذلك
الدليل على تخلف المنافقين بغير عذر
اختلاق المنافقين أعذاراً أخرى للتخلف، وفرحتهم بالسيئة التي تصيب المؤمنين وحزنهم بالحسنة
إحباط ثواب المنافقين على نفقاتهم وصلواتهم وتعذيبهم في الدنيا والآخرة
انتهاز المنافقين الفرصة للطعن بالرسول صلى الله عليه وسلم، وحَلِفُهُم الإيمان الكاذبة
مصارف الزكاة
إيذاء المنافقين للرسول صلى الله عليه وسلم
أحوال المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك وخوفهم أن يفضحهم القرآن
صفات المنافقين وجزاؤهم الأخروي
صفات المؤمنين وجزاؤهم الأخروي
أسباب جهاد الكفار والمنافقين
كذب المنافقين وخلفهم العهد والوعد
إعابة المنافقين على المؤمنين المنفقين
فرح المتخلفين من المنافقين عن غزوة تبوك
منع المنافقين من الجهاد، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهم، والتحذير من الاغترار بهم
قصة حديث الصلاة على عبد الله بن أُبَيّ
استئذان زعماء المنافقين في التخلف عن الجهاد، وإقدام المؤمنين عليه
معاتبة المنافقين بالتخلف عن الجهاد
عدم تصديق المنافقين في اعتذاراتهم وأيمانهم الكاذبة
أحوال الأعراب سكان البادية
منزلة السابقين الأولين وحال منافقي المدينة وما حولها
قَبول التوبة والصدقات والأعمال الصادرة عن خلوص النية والإثابة عليها
الانتظار الصعب
المقارنة بين أهل النفاق وأهل التقوى
حال المؤمنين الصادقين في جهادهم
وجوب قطع الموالاة مع الكفار حيِّهم وميِّتهم
قَبول توبة أهل تبوك ومجازاة المخلفين الثلاثة على صدقهم
النهي عن التخلف عن الجهاد وتبيين حسن جزاء المجاهدين
توزيع المسؤوليات بين المسلمين لنشر الدين
الدعوة إلى إظهار الغلظة مع الكفار
مدى تأثير التنزيل على المؤمنين والمنافقين
امتنان الله على المؤمنين بصفات رسوله الكريم
بَين يَدَيْ السُّورَة
* هذه السورة الكريمة من السور المدنية التي تُعنى بجانب التشريع، وهي من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري عن البراء بن عازب أن آخر سورة نزلت براءة، وروى الحافظ ابن كثير: أن أول هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من غزوة تبوك، وبعث أبا بكر الصديق أميراً على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغاً عن رسول الله صلى الله ما فيها من الأحكام نزلت في السنة التاسعة من الهجرة، وهي السنة التي خرج فيها رسول الله عليه وسلم لغزو الروم، واشتهرت بين الغزوات النبوية بـ "غزوة تبوك" وكانت في حرٍّ شديد، وسفر بعيد، حين طابت الثمار، وأخلد الناس إلى نعيم الحياة، فكانت ابتلاء لإِيمان المؤمنين، وامتحاناً لصدقهم وإِخلاصهم لدين الله، وتمييزاً بينهم وبين المنافقين، ولهذه السورة الكريمة هدفان أساسيان - إلى جانب الأحكام الأخرى - هما:
أولاً: بيان القانون الإِسلامي في معاملة المشركين، وأهل الكتاب.
ثانياً: إِظهار ما كانت عليه النفوس حينما استنفرهم الرسول لغزو الروم.
* أما بالنسبة للهدف الأول فقد عرضت السورة إلى عهود المشركين فوضعت لها حداً، ومنعت حج المشركين لبيت الله الحرام، وقطعت الولاية بينهم وبين المسلمين، ووضعت الأساس في قبول بقاء أهل الكتاب في الجزيرة العربية، وإِباحة التعامل معهم، وقد كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين عهود ومواثيق، كما كان بينه وبين أهل الكتاب عهود أيضاً، ولكن المشركين نقضوا العهود وتآمروا مع اليهود عدة مرات على حرب المسلمين، وخانت طوائف اليهود "بنو النضير" و "بنو قريظة" و "بنو قينقاع" ما عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهودهم مرات ومرات، فلم يعد من الحكمة أن يبقى المسلمون متمسكين بالعهود وقد نقضها أعداؤهم، فنزلت السورة الكريمة بإِلغاء تلك العهود ونبذها إليهم على وضوحٍ وبصيرة، لأن الناكثين لا يتورعون عن الخيانة كلما سنحت لهم الفرصة، وبذلك قطع الله تعالى ما بين المسلمين والمشركين من صلات، فلا عهد، ولا تعاهد، ولا سلم، ولا أمان بعد أن منحهم الله فرصة كافية هي السياحة في الأرض أربعة أشهر ينطلقون فيها آمنين، ليتمكنوا من النظر والتدبر في أمرهم، ويختاروا ما يرون فيه المصلحة لهم. وفي ذلك نزل صدر السورة الكريمة {بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ..} الآيات.
* ثم تلتها الآيات في قتال الناقضين للعهود من أهل الكتاب {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ..} الآية، وقد تناول الحديث عنهم ما يقرب من عشرين آية، كشف الله سبحانه فيها القناع عن خفايا أهل الكتاب، وما انطوت عليه نفوسهم من خبثٍ ومكر، وحقدٍ على الإِسلام والمسلمين.
* وعرضت السورة للهدف الثاني، وهو شرح نفسيات المسلمين حين استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو الروم، وقد تحدثت الآيات عن المتثاقلين منهم والمتخلفين، والمثبطين، وكشفت الغطاء عن فتن المنافقين، باعتبار خطرهم الدائم على الإِسلام والمسلمين، وفضحت أساليب نفاقهم، وألوان فتنتهم وتخذيلهم للمؤمنين، حتى لم تدع لهم ستراً إِلا هتكته، ولا دخيلة إِلا كشفتها، وتركتهم بعد هذا الكشف والإِيضاح تكاد تلمسهم أيدي المؤمنين، وقد استغرق الحديث عنهم معظم السورة بدءاً عن قوله تعالى {لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ..} إِلى قوله تعالى {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبةً في قلوبهم إِلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم} ولهذا سماها بعض الصحابة "الفاضحة" لأنها فضحت المنافقين وكشفت أسرارهم، قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن سورة براءة فقال: تلك الفاضحة، ما زال ينزل: ومنهم، ومنهم، حتى خفنا ألا تدع منهم أحداً، وروي عن حذيفة بن اليمان أنه قال: إِنكم تسمونها سورة التوبة، وإِنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحداً من المنافقين إِلا نالت منه، وهذا هو السر في عدم وجود البسملة فيها قال ابن عباس: سألت علي بن أبي طلب لِم لمْ يُكتب في براءة {بسـمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيِمِ}؟ قال: لأن {بسـمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيِمِ} أمان، وبراءة نزلت بالسيف، ليس فيها أمان، وقال سفيان بن عيينة، إِنما لم تكتب في صدر هذه السورة البسملة لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت بالمنافقين وبالسيف، ولا أمان للمنافقين.
* وبالجملة فإِن هذه السورة الكريمة قد تناولت "الطابور الخامس" المندس بين صفوف المسلمين ألا وهم "المنافقون" الذين هم أشد خطراً من المشركين، ففضحتهم وكشفت أسرارهم ومخازيهم، وظلت تقذفهم بالحمم حتى لم تُبق منهم دياراً، فقد وصل بهم الكيد في التآمر على الإِسلام، أن يتخذوا بيوت الله أوكاراً للتخريب والتدمير، وإِلقاء الفتنة بين صفوف المسلمين، في مسجدهم الذي عرف باسم "مسجد الضرار" وقد نزل في شأنه أربع آيات في هذه السورة {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ..} الآيات ولم يكد النبي صلى الله عليه وسلم يتلقى الوحي حتى قال لأصحابه: (انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرّقوه) فهدموه وكفى الله الإِسلام والمسلمين شرهم، وكيدهم، وخبثهم، وفضحهم إلى يوم الدين.
التَــســـميَــة:
تسمى هذه السورة بأسماء عديدة أوصلها بعض المفسرين إِلى أربعة عشر اسماً، قال العلامة الزمخشري: لهذه السورة عدة أسماء: (براءة، والتوبة، والمقشقشة، والمبعثرة، والمشردة، والمخزية، والفاضحة، والمثيرة، والحافرة، والمنكلة، والمدمدمة، وسورة العذاب) قال:لأن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق أيتبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين، وتبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها، وتفضحهم، وتنكل بهم، وتشردهم، وتخزيهم، وتدمدم عليهم.
نقض عهد المشركين، وإِعلان الحرب عليهم والبراءة منهم
{بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(1)فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ(2)وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(3)إِلا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(4)}.
سبب النزول:
روي أن جماعة من رؤساء قريش أُسِروا يوم بدر، وفيهم "العباس بن عبد المطلب" فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيرّوهم بالشرك، وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقال: وهل لكم من محاسن؟ فقال: نعم، إِنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني - الأسير - فنزلت هذه الآية {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ...} الآية.
{بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي إن الله ورسوله يتبرّآن من عهود المشركين، قال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهوداً عقدتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره الله بإِلقاء عهودهم إِليهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج ليقيم للناس المناسك، ثم أتبعه علياً ليعلم الناس بالبراءة، فقام علي فنادى في الناس بأربع: ألاّ يقرب البيت الحرام بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، وأنه لا يدخل الجنة إِلا مسلم، ومن كان بينه وبين رسول الله مدة فأجله إِلى مدته، والله بريء من المشركين ورسولُهُ.
{فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} أي سيروا آمنين أيها المشركون مدة أربعة أشهر لا يقع بكم منا مكروه، وهو أمر إِباحة وفي ضمنه تهديد {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} أي لا تفوتونه تعالى وإِن أمهلكم هذه المدة {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} أي مذلهم في الدنيا بالأسر والقتل، وفي الآخرة بالعذاب الشديد .
{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} أي إِعلام إلى كافة الناس بتبرئ الله تعالى ورسوله من المشركين {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} أي يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك، قال الزمخشري: وصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} أي إِعلام لهم بأن الله بريء من المشركين وعهودهم، ورسوله بريء منهم أيضاً.
{فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي فإِن تبتم عن الكفر ورجعتم إِلى توحيد الله فهو خير لكم من التمادي في الضلال {وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} أي وإِن أعرضتم عن الإِسلام وأبيتم إِلا الاستمرار على الغيّ والضلال، فاعلموا أنكم لا تفوتون الله طلباً، ولا تُعجزونه هرباً {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي بشر الكافرين بعذاب مؤلم موجع يحل بهم، قال أبو حيان: جعل الإِنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم، وفي هذا وعيد عظيم لهم.
{إِلا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي إِلا الذين عاهدتموهم ولم ينقضوا العهد فأتموا إِليهم عهدهم، قال في الكشاف: وهو استثناء بمعنى الاستدراك أي لكن من وفى ولم ينكث فأتموا عليهم عهدهم، ولا تُجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفيَّ كالغادر {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا} أي لم ينقضوا من شروط الميثاق شيئاً {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} أي لم يعينوا عليكم أحداً من أعدائكم {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} أي وفوا العهد كاملاً إِلى انقضاء مدته {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي يحب المتقين لربهم الموفين لعهودهم، قال البيضاوي: هذا تعليل وتنبيه على أن إِتمام عهدهم من باب التقوى، قال ابن عباس: كان قد بقي لحيٍّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأتم صلى الله عليه وسلم إِليهم عهدهم.
فريضة قتال مشركي العرب
{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءاتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5)}
{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} أي مضت وخرجت الأشهر الأربعة التي حرم فيها قتالهم {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} أي اقتلوهم في أي مكانٍ أو زمان من حلٍّ أو حرم، قال ابن عباس: في الحلِّ والحرم وفي الأشهر الحرم {وَخُذُوهُمْ} أي بالأسر {وَاحْصُرُوهُمْ} أي احبسوهم وامنعوهم من التقلب في البلاد، قال ابن عباس: إِن تحصنوا فاحصروهم أي في القلاع والحصون حتى يُضطروا إِلى القتل أو الإِسلام {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي اقعدوا لهم في كل طريق يسلكونه، وارقبوهم في كل ممر يجتازون منه في أسفارهم، قال أبو حيّان: وهذا تنبيه على أن المقصود إِيصال الأذى إِليهم بكل وسيلة بطريق القتال أو بطريق الاغتيال {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءاتَوْا الزَّكَاةَ} أي فإِن تابوا عن الشرك وأدوا ما فرض عليهم من الصلاة والزكاة {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} أي كفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب.
مشروعية الأمان
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ(6)}
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} أي إِن استأمنك مشرك وطلب منك جوارك {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} أي أمنه حتى يسمع القرآن ويتدبره، قال الزمخشري: المعنى إِن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر، لا عهد بينك وبينه، واستأمنك ليسمع ما تدعو إِليه من التوحيد والقرآن، فأمنه حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطّلع على حقيقة الأمر وأقول: هذا غاية في حسن المعاملة وكرم الأخلاق، لأن المراد ليس النيل من الكافرين، بل إِقناعهم وهدايتهم حتى يعرفوا الحق فيتبعوه، ويتركوا ما هم عليه من الضلال {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي ثم إِن لم يُسلم فأوصله إِلى ديار قومه التي يأمن فيها على نفسه وماله من غير غدر ولا خيانة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} أي ذلك الأمر بالإِجارة للمشركين، بسبب أنهم لا يعلمون حقيقة دين الإِسلام، فلا بد من أمانهم حتى يسمعوا ويتدبروا.
الحكمة من البراءة من عهود المشركين
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(7)كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ(
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(9)لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ(10)}
بين تعالى الحكمة من البراءة من عهود المشركين فقال {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} استفهام بمعنى الإِنكار والاستبعاد أي كيف يكون لهم عهد معتدٌ به عند الله ورسوله، ثم استدرك فقال {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي لكن من عاهدتم من المشركين عند المسجد الحرام ولم ينقضوا العهد، قال ابن عباس: هم أهل مكة وقال ابن اسحاق: هم قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فأمر بإِتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده منهم {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} أي فما داموا مستقيمين على عهدهم فاستقيموا لهم على العهد، قال الطبري: أي فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على الوفاء {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي يحب من اتقى ربه، ووفى عهده، وترك الغدر والخيانة.
{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أي كيف يكون لهم عهد وحالهم هذه أنهم إِن يظفروا بكم {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً} أي لا يراعوا فيكم عهداً ولا ذمة، لأنه لا عهد لهم ولا أمان، قال أبو حيان: وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي يرضونكم بالكلام الجميل إِن كان الظفر لكم عليهم {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} أي وتمتنع قلوبهم من الإِذعان والوفاء بما أظهروه، قال الطبري: المعنى يعطونكم بألسنتهم من القول خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء، وتأبى قلوبهم أن يذعنوا بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} أي وأكثرهم ناقضون للعهد خارجون عن طاعة الله.
{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} أي استبدلوا بالقرآن عرضاً يسيراً من متاع الدنيا الخسيس {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} أي منعوا الناس عن اتباع دين الإِسلام {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي بئس هذا العمل القبيح الذي عملوه {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً} أي لا يراعون في قتل مؤمن لو قدروا عليه عهداً ولا ذمة {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ} أي وأولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة هم المجاوزون الحد في الظلم والبغي.
مصير المشركين إما التوبة وإما القتال
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءاتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(11)وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ(12)}
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءاتَوُا الزَّكَاةَ} أي فإِن تابوا عن الكفر وأقاموا الصلاة وأعطوا الزكاة {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} أي فهم إخوانكم في الدين، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم {وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ونبين الحجج والأدلة لأهل العلم والفهم، والجملة اعتراضية للحث على التدبر والتأمل {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} أي وإِن نقضوا عهودهم الموثقة بالأيمْان {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} أي عابوا الإِسلام بالقدح والذم {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أي رؤساء وصناديد الكفر {إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} أي لا أيمان لهم ولا عهود يوفون بها {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} أي كي يكفوا عن الإِجرام، وينتهوا عن الطعن في الإِسلام، قال البيضاوي: وهو متعلق بـ "قاتلوا" أي ليكن غرضكم في المقاتلة الانتهاء عما هم عليه، لا إِيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين.
التحريض على قتال المشركين الناكثين للعهود
{أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(13)قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ(14)وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(15)}
{أَلا تُقَاتلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} تحريض على قتالهم أي ألا تقاتلون يا معشر المؤمنين قوماً نقضوا العهود وطعنوا في دينكم؟ {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} أي عزموا على تهجير الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة حين تشاوروا بدار الندوة على إِخراجه من بين أظهركم {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي هم البادئون بالقتال حيث قاتلوا حلفاءكم خزاعة، والبادئ أظلم، فما يمنعكم أن تقاتلوهم؟ {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ}؟ أي أتخافونهم فتتركون قتالهم خوفاً على أنفسكم منهم؟ فالله أحق أن تخافوا عقوبته إِن تركتم أمره {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إِن كنتم مصدقين بعذابه وثوابه، قال الزمخشري: يعني أن قضية الإِيمان الصحيح ألا يخشى المؤمن إِلا ربه ولا يبالي بمن سواه.
ثم بعد الحض والحث أمرهم بقتالهم صراحة فقال {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} أي قاتلوهم يا معشر المؤمنين فقتالكم لهم عذاب بأيدي أولياء الله وجهاد لمن قاتلهم {وَيُخْزِهِمْ} أي يذلهم بالأسر والقهر {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} أي يمنحكم الظفر والغلبة عليهم {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} أي يشف قلوب المؤمنين بإِعلاء دين الله وتعذيب الكفار وخزيهم، قال ابن عباس: هم قوم من اليمن قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيراً فشكوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبشروا فإِن الفرج قريب {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} أي يذهب ما بها من غيظ، وغمٍّ، وكرب، وهو كالتأكيد لشفاء الصدور وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمنّ الله عليهم من تعذيب أعدائهم، قال الرازي: أمر تعالى بقتالهم وذكر فيه خمسة أنواع من الفوائد، كل واحد منها يعظم موقعه إِذا انفرد، فكيف بها إِذا اجتمعت؟ {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} كلام مستأنف أي يمن الله على من يشاء منهم بالتوبة والدخول في الإِسلام كأبي سفيان {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالم بالأسرار لا تخفى عليه خافية، حكيم لا يفعل إِلا ما فيه حكمة ومصلحة، قال أبو السعود: ولقد أنجز الله سبحانه جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون، فكان إِخباره عليه السلام بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة.
اختبار المسلمين واتخاذ البطانة
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(16)}
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} أم منقطعة بمعنى بل والهمزة أي بل أحسبتم يا معشر المؤمنين أن تتركوا بغير امتحان وابتلاء يعرف الصادق منكم في دينه من الكاذب فيه! {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} أي والحال أنه لم يتبيّن المجاهد منكم من غيره، والمراد بالعلم علم ظهور لا علم خفاء فإِنه تعالى يعلم ذلك غيباً فأراد إِظهار ما علم ليجازي على العمل {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} أي جاهدوا في سبيل الله ولم يتخذوا بطانة وأولياء من المشركين يفشون إِليهم أسرارهم ويوالونهم من دون المؤمنين، والغرض من الآية: أن الله تعالى لا يترك الناس دون تمحيص يظهر فيه الطيب من الخبيث {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي يعلم جميع أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها.
عمارة المساجد
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ(17)إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ(18)}
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} أي لا يصح ولا يستقيم ولا ينبغي ولا يليق بالمشركين أن يعمروا شيئاً من المساجد {شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} أي حال كونهم مقرين بالكفر، ناطقين به بأقوالهم وأفعالهم حيث كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إِلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك" يعنون الأصنام، وكانوا قد نصبوا أصنامهم خارج البيت، وكانوا يطوفون عراة كلما طافوا طوفة سجدوا للأصنام والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة مساجد الله، مع الكفر بالله وبعبادته {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي بطلت أعمالهم بما قارنها من الشرك {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} أي ماكثون في نار جهنم أبداً .
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي إِنما تستقيم عمارة المساجد وتليق بالمؤمن المصدق بوحدانية الله، الموقن بالآخرة {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَءاتَى الزَّكَاةَ} أي أقام الصلاة المكتوبة بحدودها، وأدى الزكاة المفروضة بشروطها {وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} أي خاف الله ولم يرهب أحداً سواه {فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي فعسى أن يكونوا في زمرة المهتدين يوم القيامة، قال ابن عباس: كل عسى في القرآن واجبة قال الله لنبيه {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} يقول: إِن ربك سيبعثك مقاماً محموداً وهي الشفاعة، قال أبو حيّان: وعسى من الله تعالى واجبة حيثما وقعت في القرآن، وفي التعبير بعسى قطع لأطماع المشركين أن يكونوا مهتدين، إِذ من جمع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من تُرجى له الهداية، فكيف بمن هو عارٍ منها؟ وفيه ترجيح الخشية على الرجاء، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة.
فضل الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19)الَّذِينَ ءامنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(20)يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21)خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(22)}
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الخطاب للمشركين، والاستفهام للإِنكار والتوبيخ والمعنى: أجعلتم يا معشر المشركين سقاية الحجيج وسدانة البيت، كإِيمان من آمن بالله وجاهد في سبيله؟ وهو رد على العباس حين قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإِسلام والهجرة، فلقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، فنزلت قال الطبري: هذا توبيخ من الله تعالى لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت الحرام، فأعلمهم أن الفخر في الإِيمان بالله، واليوم الآخر، والجهاد في سبيله {لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} أي لا يتساوى المشركون بالمؤمنين، ولا أعمال أولئك بأعمال هؤلاء ومنازلهم {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} هذا كالتعليل أي لا يوفق الظالمين إِلى معرفة الحق، قال أبو حيّان: ومعنى الآية إِنكار أن يُشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، ولما نفى المساواة بينهم أوضحها بأن الكافرين بالله هم الظالمون، ظلموا أنفسهم بعدم الإِيمان، وظلموا المسجد الحرام إِذ جعلوه متعبداً لأوثانهم، وأثبت للمؤمنين الهداية في الآية السابقة، ونفاها عن المشركين هنا فقال {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
ثم قال تعالى {الَّذِينَ ءامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} هذا زيادة توضيح وبيان لأهل الجهاد والإِيمان والمعنى: إِن الذين طهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإِيمان، وطهروا أبدانهم بالهجرة من الأوطان، وبذلوا أنفسهم وأموالهم للجهاد في سبيل الرحمن، هؤلاء المتصفون بالأوصاف الجليلة أعظم أجراً، وأرفع ذكراً من سقاة الحاج، وعمار المسجد الحرام وهم بالله مشركون {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} أي أولئك هم المختصون بالفوز العظيم في جنات النعيم {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} أي يبشرهم المولى برحمة عظيمة، ورضوان كبير من ربٍّ عظيم {وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} أي وجنات عالية، قطوفها دانية، لهم في تلك الجنات نعيم دائم لا زوال له {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي ماكثين في الجنان إِلى ما لا نهاية {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي ثوابهم عند الله عظيم، تعجز العقول عن وصفه قال أبو حيان: لما وصف المؤمنين بثلاث صفات: الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاثة: الرحمة، الرضوان، والجنان، فبدأ بالرحمة لأنها أعم النعم في مقابلة الإِيمان، وثنَّى بالرضوان الذي هو نهاية الإِحسان في مقابلة الجهاد، وثلَّث بالجنان في مقابلة الهجرة وترك الأوطان، وقال الألوسي: ولا يخفى أن وصف الجنات بأن لهم فيها نعيمٌ مقيم جاء في غاية اللطافة، لأن الهجرة فيها السفر، الذي هو قطعة من العذاب.
ولاية الآباء والإخوان الكافرين، وتفضيل الإيمان والجهاد
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا ءابَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(23)قُلْ إِنْ كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(24)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا ءابَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} النداء بلفظ الإِيمان للتكريم ولتحريك الهمة للمسارعة إِلى امتثال أوامر الله، قال ابن مسعود: "إِذا سمعت الله تعالى يقول: يا أيها الذين ءامنوا فأَرْعِها سمعك، فإِنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه" والمعنى: لا تتخذوا آباءكم وإِخوانكم الكافرين أنصاراً وأعواناً تودونهم وتحبونهم {إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} أي إِن فضلوا الكفر واختاروه على الإِيمان وأصروا عليه إِصراراً {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} قال ابن عباس: هو مشرك مثلهم، لأن من رضي بالشرك فهو مشرك.
{قُلْ إِنْ كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} أي إِن كان هؤلاء الأقارب من الآباء، والأبناء ، والإِخوان، والزوجات ومن سواهم {وَعَشِيرَتُكُمْ} أي جماعتكم التي تستنصرون بهم {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} أي وأموالكم التي اكتسبتموها {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} أي تخافون عدم نفاقها {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} أي منازل تعجبكم الإِقامة فيها {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} هذا هو جواب كان أي إِن كانت هذه الأشياء المذكورة أحب إِليكم من الهجرة إِلى الله ورسوله {وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} أي وأحب إِليكم من الجهاد لنصرة دين الله {فَتَرَبَّصُوا} أي انتظروا وهو وعيد شديد وتهديد {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي بعقوبته العاجلة أو الآجلة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي لا يهدي الخارجين عن طاعته إلى طريق السعادة، وهذا وعيد لمن آثر أهله أو ماله، أو وطنه، على الهجرة والجهاد.
نصر الله للمؤمنين على الأعداء في مواضع كثيرة
{لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(26)ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(27)}
ذكرهم تعالى بالنصر على الأعداء في مواطن اللقاء فقال: {لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} أي نصركم في مشاهد كثيرة، وحروب عديدة {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} أي ونصركم أيضاً يوم حنين بعد الهزيمة التي منيتم بها بسبب اغتراركم بالكثرة {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} أي حين أعجبكم كثرة عددكم فقلتم: لن نغلب اليوم من قلة، وكنتم اثني عشر ألفاً وأعداؤكم أربعة آلاف، فلم تنفعكم الكثرة ولم تدفع عنكم شيئاً {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي وضاقت الأرض على رحبها وكثرة اتساعها بكم من شدة الخوف {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} أي وليتم على أدباركم منهزمين قال الطبري: يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده، وأنه ليس بكثرة العدد، وأنه ينصر القليل على الكثير إِذا شاء، قيل للبراء بن عازب: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال البراء: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، ولقد رأيته على بغلته البيضاء - وأبو سفيان آخذ بلجامها يقودها - فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول:
أنـا النـبي لا كــذب أنـا ابـــن عـبد المطـلب
ثم أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه المشركين وقال: شاهت الوجوه ففروا، فما بقي أحد إِلا ويمسح القذى عن عينيه، وقال البراء: كنا والله إِذا حميَ البأس نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم وإِن الشجاع منا الذي يحاذيه.
{ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي أنزل بعد الهزيمة الأمن والطمأنينة على المؤمنين حتى سكنت نفوسهم، قال أبو السعود: أي أنزل رحمته التي تسكن بها القلوب وتطمئن إِليها {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} قال ابن عباس: يعني الملائكة {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بالقتل والأسر وسبي النساء والذراري {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} أي وذلك عقوبة الكافرين بالله. {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} أي يتوب على من يشاء فيوفقه للإِسلام، وهو إِشارة إِلى إِسلام هوازن {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة.
تحريم دخول المشركين إلى المسجد الحرام
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(28)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} أي قذر لخبث باطنهم، قال ابن عباس: أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وقال الحسن: من صافح مشركاً فليتوضأ، والجمهور على أن هذا على التشبيه أي هم بمنزلة النجس أو كالنجس لخبث اعتقادهم وكفرهم بالله جعلوا كأنهم النجاسة بعينها مبالغة في الوصف على حد قولهم: عليٌّ أسدٌ أي كالأسد {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} أي فلا يدخلوا الحرم، أطلق المسجد الحرام وقصد به الحرم كله قال أبو السعود: وقيل: المراد المنع عن الحج والعمرة أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسع من الهجرة ويؤيده حديث (وألاَّ يحج بعد هذا العام مشرك) وهو العام الذي نزلت فيه سورة براءة ونادى بها عليٌّ في المواسم .
{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي وإِن خفتم أيها المؤمنون فقراً بسبب منعهم من دخول الحرم أو من الحج فإِن الله سبحانه يغنيكم عنهم بطريق آخر من فضله وعطائه، قال المفسرون: لما مُنع المسلمون من تمكين المشركين من دخول الحرم، وكان المشركون يجلبون الأطعمة والتجارات إليهم في المواسم، ألقى الشيطان في قلوبهم الحزن فقال لهم: من أين تأكلون؟ وكيف تعيشون وقد منعت عنكم الأرزاق والمكاسب؟ فأمنهم الله من الفقر والعيلة، ورزقهم الغنائم والجزية {إِنْ شَاءَ} أي يغنيكم بإِرادته ومشيئته {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قال ابن عباس عليم بما يصلحكم، حكيم فيما حكم في المشركين.
الأمر بمقاتلة أهل الكتاب، وأخذ الجزية منهم
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ(29)}
ولما ذكر حكم المشركينذكر حكم أهل الكتاب فقال {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} أي قاتلوا الذين لا يؤمنون إِيماناً صحيحاً بالله واليوم الآخر وإِن زعموا الإِيمان، فإِن اليهود يقولون عُزَير ابن الله، والنصارى يعتقدون بألوهية المسيح ويقولون بالتثليث {وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي لا يحرمون ما حرم الله في كتابه، ولا رسوله في سنته، بل يأخذون بما شرعه لهم الأحبار والرهبان ولهذا يستحلون الخمر والخنزير وما شابههما {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} أي لا يعتقدون بدين الإِسلام الذي هو دين الحق {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} هذا بيان للمذكورين أي من هؤلاء المنحرفين من اليهود والنصارى الذين نزلت عليهم التوراة والإِنجيل {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} أي حتى يدفعوا إِليكم الجزية منقادين مستسلمين {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي أذلاء حقيرون مقهورون بسلطان الإِسلام.
افتراء اليهود والنصارى على الله بنَسْبتهم الولد له سبحانه
{وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(30)اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(31)يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(32)هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(33)}
ذكر الله تعالى طرفاً من قبائحهم فقال {وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} أي نسب اللعناء إلى الله الولد، وهو واحد أحد فرد صمد، قال البيضاوي: وإِنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد بختنصر من يحفظ التوراة، فلما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظاً فتعجبوا من ذلك وقالوا: ما هذا إِلا لأنه ابن الله .
{وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} أي وزعم النصارى - أعداء الله - أن المسيح ابن الله قالوا: لأن عيسى ولد بدون أب، ولا يمكن أن يكون ولد بدون أب، فلا بد أن يكون ابن الله، قال تعالى رداً عليهم {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي ذلك القول الشنيع هو مجرد دعوى باللسان من غير دليل ولا برهان، قال ابن جزي: يتضمن معنيين: أحدهما إِلزامهم هذه المقالة والتأكيد في ذلك، والثاني أنهم لا حجة لهم في ذلك، وإِنما هو مجرد دعوى كقولك لمن تكذبه: هذا قولك بلسانك {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} أي يشابهون بهذا القول الشنيع قول المشركين قبلهم: الملائكة بنات الله {تشابهت قلوبهم} {قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} دعاء عليهم بالهلاك أي أهلكهم الله كيف يُصرفون عن الحق إلى الباطل بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله ولداً، قال الرازي: الصيغة للتعجب وهو راجع إِلى الخلق على عادة العرب في مخاطباتهم، والله تعالى عجَّب نبيه من تركهم الحق وإِصرارهم على الباطل {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي أطاع اليهود أحبارهم والنصارى رهبانهم في التحليل والتحريم وتركوا أمر الله فكأنهم عبدوهم من دون الله والمعنى: أطاعوهم كما يطاع الرب وإِن كانوا لم يعبدوهم وهو التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: يا عدي إِطرح عنك هذا الوثن، قال وسمعته يقرأ سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} فقلت يا رسول الله: لم يكونوا يعبدونهم فقال عليه السلام: أليس يُحرمون ما أحل الله تعالى فيحرمونه، ويحلون ما حرم الله فيستحلّونه؟ فقلت: بلى، قال: فذلك عبادتهم {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} أي اتخذه النصارى رباً معبوداً {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} أي والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا على لسان الأنبياء إِلا بعبادة إِله واحد هو الله رب العالمين {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} لا معبود بحق سواه {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزه الله عما يقول المشركون وتعالى علواً كبيراً .
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب أن يطفئوا نور الإِسلام وشرع محمد عليه السلام بأفواههم الحقيرة، بمجرد جدالهم وافترائهم، وهو النور الذي جعله الله لخلقه ضياءً، فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخه بفمه ولا سبيل إِلى ذلك {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} أي ويأبى الله إِلا أن يعليه ويرفع شأنه {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} أي ولو كره الكافرون ذلك {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} أي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالهداية التامة والدين الكامل وهو الإِسلام {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي ليعليه على سائر الأديان {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} جوابه محذوف أي ولو كره المشركون ظهوره فإنه ظاهر لا محالة.
طريقة تعامل الرهبان والأحبار مع الناس
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ